آخر الأخبار

كتاب حدث أبو هريرة قال

قبل عشر سنوات، وبالتحديد في 15/12/2004، رحل الأديب التونسي محمود المسعدي عن هذه الدنيا بعدما خلّف كتباً عدة أثار بعضها سجالات فكرية وأدبية حامية مثل «حدّث أبو هريرة قال» و«السد» و«مولد النسيان». ومحمود المسعدي من الأدباء العرب القلة الذين كان أدبهم يحمل مضامين فلسفية واضحة، وفيضاً زاخراً من قلق الوجود ومن البحث المحموم عن المعرفة. ومع نزعته الكلاسيكية، كان لديه ميل صوفي تجلى في رموزه التعبيرية، ولغة شاعرية مكتنزة بالجمال والأناقة اللفظية، أي انه مزج الخيال بالعقل معاً، وشبك الفلسفة بالأدب في سياق إبداعي واحد.
المأساة لديه هي الأدب. أي أن الأدب من دون تراجيديا يكف عن أن يكون أدباً باحثاً عن أسرار الوجود الإنساني، ويصبح أدباً متنزهاً ويومياً، أي بلا رؤيا، فلا يخلق فكرة، أو يعيد صوغ نص جديد، أو يؤسس إبداعاً عميقاً. وقد ظهر تأثره بأبي العلاء المعري وأبي حيان التوحيدي قوياً في نصوصه ولا سيما في كتابه «حدّث أبو هريرة قال»، كما تأثر بأشعار عمر الخيام ومحمد إقبال، علاوة على بودلير ورامبو وبول فاليري وسارتر وجان جيرودو ونيتشه ودوستويفسكي وكيركيغارد وإبسن وحتى أبي حامد الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال». وفي هذا الحقل من النقد لا يمكن تصنيف كتاباته بسهولة، ويحار الواحد منا في تحديد الجنس الأدبي لكتاب «حدّث أبو هريرة قال» على سبيل المثال: هل هو رواية؟ هل هو قصة طويلة؟ هل هو حوار؟ هل هو تأملات؟
إنه نص متعدد الوجوه حقاً؛ حديث من حيث الأفكار، وكلاسيكي من حيث اللغة. فقد وظف الأشكال اللغوية التراثية في سبيل إعلاء شأن العربية، وكطريقة ثقافية في تحدي الاستعمار الفرنسي الذي دأب على محو الهوية العربية لتونس إبان عهد الاستعمار.

مؤلفات أبي هريرة التونسي

من غرائب الأمور أن محمود المسعدي لم يكن يعير اهتماماً جدياً لنشر مؤلفاته... كان يكتب فحسب. أما نشر ما يكتب فكان يأتي لاحقاً، وبعد زمان طويل. ومع ذلك، لم تُخمد السنوات ما بين تاريخ التأليف وتاريخ النشر حرارة نصوصه ونضارتها على الإطلاق. وبهذا المعنى فقد امتلكت نصوصه قدرة لافتة على الاستمرار والتجدد والزهو. والمعروف أن بداياته التأليفية كانت تمثيلية من مشهد واحد عنوانها «بظاهر القيروان» كتبها في سنة 1930. ثم كتب «حدّث أبو هريرة قال» في سنة 1939 لكنه لم ينشره إلا في سنة 1973. وبعد ذلك كتب مسرحية «السد» في سنة 1940 ونشرها في سنة 1955. وهكذا توالت مؤلفاته مثل قصة «المسافر» (1942)، وكتابه «مولد النسيان» الذي كتبه في سنة 1945 ونشره في سنة 1974، و«السندباد والطهارة» (1947)، و«تأصيلاً لكيان» (1979)، و«من أيام عمران» (2002)، وله «الإيقاع في السجع العربي»، وهو أطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة باريس، وكان كتبها في سنة 1957 ونشرها بالفرنسية في سنة 1986، ثم بالعربية في سنة 1992.
يروي أن أبا هريرة ثلاثة: «أولهم المحدَّث المشهور، وثانيهم النحوي، وثالثهم هذا»، أي هو نفسه. ويستشهد بقول للنروجي هنريك إبسن هو التالي: «سنعلمُ يوم نُبعث من بين الأموات»، الأمر الذي يذكرنا بالعبارة الصوفية «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». وأبو هريرة، أي محمود المسعدي نفسه، ينوء بمكابداته الروحية، ولا ينفك ساعياً في التفتيش عن حقيقة الوجود وخفايا الإنسان وغاية الموجود. وفي هذا السعي اللاهب والحارق لا يتورع عن التمرد على كل شيء، والمروق من الدين والأخلاق والأعراف والقوانين، وتحدي المستقر في الأذهان والعقول، وانتهاك المحرمات، والشك في الله وفي الخير والشر معاً، وفي افتضاض كل ما هو مختوم، وتخليع كل ما هو مغلق، وكشف الأستار عن كل ما هو محجوب. وهذا ما يذكرنا بالروح الحرة لدى نيتشه، أو بحي بن يقظان لدى ابن طفيل. لكن حي بن يقظان يصل إلى مراتب الكشف ومعرفة الحقائق الجوهرية من خلال العزلة في جزيرته النائية والخالية من البشر والمخلوقات، أي بالتأمل. أما أبو هريرة التونسي فيكتشف الوجود والموجود من خلال مكابداته في العالم الحي والواقعي، فيفك مغاليقه بالحس المباشر.
تدور مسرحية «السد» على إرادة الخلق، وكتابه «مولد النسيان» على إرادة الخلود، ورواية «حدّث أبو هريرة قال» على المطلق، وأقصوصة «المسافر» على قوة الفعل، وأقصوصة «السندباد والطهارة» على الأعماق البشرية وطهارتها، وكتابه «بظاهر القيروان» على الحرية، و«من أيام عمران» على حقيقة الوجود. إنها الألوهة إذاً؛ فالخلق والخلود والمطلق والفعل والطهارة والحرية هي من صفات الله التي ما برح الإنسان، منذ وجوده، ساعياً إلى مشاركة الله فيها.
في ثنايا «مولد النسيان» تأملات في الموت والديمومة والفناء والزمان، وهو ينقل عن أبي حيان التوحيدي قوله: «نحن نساق بالطبيعة إلى الموت ونساق بالعقل إلى الحياة». وهذه المسرحية ذهنية تماماً، وجودية وعبثية وفيها غرابة وتفلسف، وهي تكثيف لمأساة الحياة من خلال غيلان وميمونة؛ فالإنسان يحيا ويجهد ويعمل ويتعب ويتألم ويصبر ويتطلع إلى الأمل من دون فتور، وهو يعلم، في الوقت نفسه، انه سائر إلى الفناء.
بالطبع، يمكن إسقاط «أسطورة سيزيف» على مسرحية «السد» حيث عبث الوجود ولا شيء غيره. ويمكن إسقاط قصيدة «الأرض اليباب» لإليوت عليها أيضاً، فلا شيء غير القحط والعقم، ولا شيء غير الموت يستبد بالنفوس. لكن، ثمة قراءة مغايرة لهذه الإسقاطات؛ فمسرحية «السد» على عبثيتها وغرابتها ربما تكون روح الخصب في الأرض الجدباء. وهو، في هذه القراءة، يكون أقرب إلى أبي العلاء المعري لا إلى نيتشه. ولعل ذلك ما جعل طه حسين يكتب بإعجاب وتقريظ عن «السد» في جريدة «الجمهورية» المصرية 

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

1 التعليقات:

التعليقات

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.